بسم الله الرحمن الرحيم

عقائد الإمامية
فضيلة الشيخ محمد رضا المظفر

{المقدمة } {المقدمة في الاجتهاد والتقليد} {الفصل الأول - الإلاهيات} {الفصل الثاني - النبوة}
{الفصل الثالث - الإمامة} {الفصل الرابع - ما أدب به آل البيت شيعتهم} {الفصل الخامس - المعاد}


الفصل الثاني
النـــبــوة


عقيدتنا في النــبوة

نعتقد أن ( النبوة ) وظيفة إلهية وسفارة ربانية ، يجعلها الله تعالى لمن ينتجبه ويختاره من عباده الصالحين وأوليائه الكاملين في إنسانيتهم فيرسلهم إلى سائر الناس لغاية إرشادهم إلى ما فيه منافعهم ومصالحهم في الدنيا والآخرة ، ولغرض تنزيههم وتزكيتهم من درن مساوئ الأخلاق ومفاسد العادات وتعليمهم الحكمة والمعرفة وبيان طرق السعادة والخير ، لتبلغ الإنسانية كمالها اللائق بها ، فترتفع الى درجاتها الرفيعة في الدارين دار الدنيا ودار الآخرة . ونعتقد أن قاعدة اللطف ـ على ما سيأتي معناها ـ توجب أن يبعث الخالق اللطيف بعباده رسله لهداية البشر وأداء الرسالة الإصلاحية وليكونوا سفراء الله وخلفاءه . كما نعتقد أنه تعالى لم يجعل للناس حق تعيين النبي أو ترشيحه أو انتخابه وليس لهم الخيرة في ذلك ، بل أمر كل ذلك بيده تعالى لأنه ( أعلم حيث يجعل رسالته ) . وليس لهم أن يتحكموا فيمن يرسله هاديا ومبشرا ونذيرا ولا أن يتحكموا فيما جاء به من أحكام وسنن وشريعة .

النبوة لطف

إن الإنسان مخلوق غريب الأطوار ، معقد التركيب في تكوينه وفى طبيعته وفى نفسيته وفى عقله ، بل في شخصية كل فرد من أفراده ، وقد اجتمعت فيه نوازع الفساد من جهة وبواعث الخير والصلاح من جهة أخرى : فمن جهة قد جبل على العواطف والغرائز من حب النفس والهوى والأثرة وإطاعة الشهوات ، وفطر على حب التغلب والاستطاعة والاستيلاء على ما سواه ، والتكاتب على الحياة الدنيا وزخارفها ومتاعها كما قال تعالى : ( إن الإنسان لفي خسر ) و ( إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى ) و ( إن النفس لأمارة بالسوء ) إلى غير ذلك من الآيات المصرحة والمشيرة إلى ما جبلت عليه النفس الإنسانية من العواطف والشهوات . ومن الجهة الثانية ، خلق الله تعالى فيه عقلا هاديا يرشده إلى الصلاح ومواطن الخير ، وضميرا وازعا يردعه عن المنكرات والظلم ويؤنبه على فعل ما هو قبيح ومذموم . ولا يزال الخصام الداخلي في النفس الإنسانية مستعرا بين العاطفة والعقل ، فمن يتغلب عقله على عاطفته كان من الأعلين مقاما والراشدين في إنسانيتهم والكاملين في روحانيتهم ، ومن تقهره عاطفته كان من الأخسرين منزلة والمتردين إنسانية ، والمنحدرين إلى رتبة البهائم . وأشد هذين المتخاصمين مراسا على النفس هي العاطفة وجنودها فلذلك تجد أكثر الناس منغمسين في الضلالة ومبتعدين عن الهداية بإطاعة الشهوات وتلبية نداء العواطف ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) على أن الإنسان لقصوره وعدم اطلاعه على جميع الحقائق وأسرار الأشياء المحيطة به والمنبثقة من نفسه ، لا يستطيع أن يعرف بنفسه كل ما يضره وينفعه ، ولا كل ما يسعده ويشقيه ، لا فيما يتعلق بخاصة نفسه ، ولا فيما يتعلق بالنوع الإنساني ومجتمعه ومحيطه ، بل لا يزال جاهلا بنفسه ويزيد جهلا أو إدراكا لجهله بنفسه ، كلما تقدم العلم عنده بالأشياء الطبيعية والكائنات المادية . وعلى هذا فالإنسان في أشد الحاجة ليبلغ درجات السعادة إلى من ينصب له الطريق اللاحب والنهج الواضح إلى الرشاد واتباع الهدى ، لتقوى بذلك جنود العقل حتى يتمكن من التغلب على خصمه اللدود اللجوج عندما يهيئ الإنسان نفسه لدخول المعركة الفاصلة بين العقل والعاطفة . وأكثر ما تشتد حاجته إلى من يأخذ بيده إلى الخير والصلاح عندما تخادعه العاطفة وتراوغه ـ وكثيرا ما تفعل ـ فتزين له أعماله وتحسن لنفسه انحرافاتها ، إذ تريه ما هو حسن قبيحا أو ما هو قبيح حسنا ، وتلبس على العقل طريقه إلى الصلاح والسعادة والنعيم ، في وقت ليس له تلك المعرفة التي تميز له كل ما هو حسن ونافع ، وكل ما هو قبيح وضار . وكل واحد منا صريع لهذه المعركة من حيث يدري ولا يدري إلا من عصمه الله . ولأجل هذا يعسر على الإنسان المتمدن المثقف فضلا عن الوحشي الجاهل أن يصل بنفسه إلى جميع طرق الخير والصلاح ، ومعرفة جميع ما ينفعه ونضره في دنياه وآخرته فيما يتعلق بخاصة نفسه أو بمجتمعه ومحيطه ، مهما تعاضد مع غيره من أبناء نوعه ممن هو على شاكلته وتكاشف معهم ، ومهما أقام بالاشتراك معهم المؤتمرات والمجالس والاستشارات . فوجب أن يبعث الله تعالى في الناس رحمة لهم ولطفا بهم ( رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) وينذرهم عما فيه فسادهم ويبشرهم بما فيه صلاحهم وسعادتهم . إنما كان اللطف من الله تعالى واجبا ، فلان اللطف بالعباد من كماله المطلق وهو اللطيف بعباده الجواد الكريم ، فإذا كان المحل قابلا ومستعدا لفيض الجود واللطف فانه تعالى لابد أن يفيض لطفه ، إذ لا بخل في ساحة رحمته ولا نقص في جوده وكرمه . وليس معنى الوجوب هنا أن أحدا يأمره بذلك فيجب عليه أن يطيع تعالى عن ذلك ، بل معنى الوجوب في ذلك هو كمعنى الوجوب في قولك : انه واجب الوجود " أي اللزوم واستحالة الانفكاك " .

عقيدتنا في معجزة الأنبياء

نعتقد انه تعالى إذ ينصب لخلقه هاديا ورسولا لابد أن يعرفهم بشخصه ويرشدهم إليه بالخصوص على وجه التعيين ، وذلك منحصر بأن ينصب على رسالته دليلا وحجة يقيمها لهم ، إتماما للطف واستكمالا للرحمة . وذلك الدليل لابد أن يكون من نوع لا يصدر إلا من خالق الكائنات ومدبر الموجودات ( أي فوق مستوى مقدور البشر ) فيجريه على يدي ذلك الرسول الهادي ليكون معرفا به ومرشدا إليه . وذلك الدليل هو المسمى ب (المعجز أو المعجزة) لأنه يكون على وجه يعجز البشر عن مجاراته والإتيان بمثله . وكما أنه لابد للنبي من معجزة يظهر بها للناس لإقامة الحجة عليهم فلابد ن تكون تلك المعجزة ظاهرة الإعجاز بين الناس على وجه يعجز عنها العلماء وأهل الفن في وقته فضلا عن غيرهم من سائر الناس مع اقتران تلك المعجزة بدعوى النبوة منه لتكون دليلا على مدعاه وحجة بين يديه . فإذا عجز عنها أمثال أولئك علم أنها فوق مقدور البشر وخارقة للعادة ، فيعلم أن صاحبها فوق مستوى البشر بما له من ذلك الاتصال الروحي بمدبر الكائنات ، وإذا تم ذلك لشخص من ظهور المعجز الخارق للعادة ، وادعى مع ذلك النبوة والرسالة ، يكون حينئذ موضعا لتصديق الناس بدعواه والإيمان برسالته والخضوع لقوله وأمره فيؤمن به من يؤمن ويكفر به من يكفر . ولأجل هذا وجدنا أن معجزة كل نبي تناسب ما يشتهر في عصره من العلوم والفنون ، فكانت معجزة موسى عليه السلام هي العصا التي تلقف السحر وما يأفكون ، إذ كان السحر في عصره فنا شائعا ، فلما جاءت العصا بطل ما كانوا يعملون وعلموا أنها فوق مقدورهم ، وأعلى من فنهم وأنها مما يعجز عن مثله البشر ، ويتضاءل عندها الفن والعلم وكذلك كانت معجزة عيسى عليه السلام ، وهى إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، إذ جاءت في وقت كان فن الطب هو السائد بين الناس وفيه علماء وأطباء لهم المكانة العليا ، فعجز علمهم عن مجاراة ما جاء به عيسى عليه السلام . ومعجزة نبينا الخالدة هي القرآن الكريم المعجز ببلاغته وفصاحته ، في وقت كان فن البلاغة معروفا . وكان البلغاء هم المقدمون عند الناس بحسن بيانهم وسمو فصاحتهم ، فجاء القرآن كالصاعقة أذلهم وأدهشهم وأفهمهم أنهم لا قبل لهم به ، فخنعوا له مهطعين عندما عجزوا عن مجاراته وقصروا عن اللحاق بغباره . ويدل على عجزهم انه تحداهم بإتيان عشر سور مثله فلم يقدروا . ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فنكصوا . ولما علمنا عجزهم عن مجاراته مع تحديه لهم وعلمنا لجوءهم إلى المقاومة بالسنان دون اللسان ـ علمنا أن القرآن من نوع المعجز وقد جاء به محمد بن عبد الله مقرونا بدعوى الرسالة ، فعلمنا أنه رسول الله جاء بالحق وصدق به صلى الله عليه وآله .

عقيدتنا في عصمة الأنبياء

ونعتقد أن الأنبياء معصومون قاطبة ، وكذلك الأئمة ، عليهم جميعا التحيات الزاكيات ، وخالفنا في ذلك بعض المسلمين ، فلم يوجبوا العصمة في الأنبياء فضلا عن الأئمة . والعصمة : هي التنزه عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها ، وعن الخطأ والنسيان ، وأن لم يمتنع عقلا على النبي أن يصدر منه ذلك بل يجب أن يكون منزها حتى عما ينافى المروءة ، كالتبذل بين الناس من أكل في الطريق أو ضحك عال ، وكل عمل يستهجن فعله عند العرف العام . والدليل على وجوب العصمة : انه لو جاز أن يفعل النبي المعصية أو يخطأ وينسى ، وصدر منه شئ من هذا القبيل ، فأما أن يجب اتباعه في فعله الصادر منه عصيانا أو خطأ أو لا يجب ، فان وجب اتباعه فقد جوزنا فعل المعاصي برخصه من الله تعالى بل أوجبنا ذلك ، وهذا باطل بضرورة الدين العقل ، وان لم يجب اتباعه فذلك ينافى النبوة التي لابد أن تقترن بوجوب الطاعة أبدا . على أن كل شئ يقع منه من فعل أو قول فنحن نحتمل فيه المعصية أو الخطأ فلا يجب اتباعه في شئ من الأشياء فتذهب فائدة البعثة ، بل يصبح النبي كسائر الناس ليس لكلامهم ولا لعملهم تلك القيمة العالية التي يعتمد عليها دائما . كما لا تبقى طاعة حتمية لأوامره ولا ثقة مطلقة بأقواله وأفعاله . وهذا الدليل على العصمة يجري عينا في الإمام ، لأن المفروض فيه أنه منصوب من الله تعالى لهداية البشر خليفة للنبي ، على ما سيأتي في فصل الإمامة .

عقيدتنا في صفات النبي

ونعتقد أن النبي كما يجب أن يكون معصوما يجب أن يكون متصفا بأكمل الصفات الخلقية والعقلية وأفضلها ، من نحو الشجاعة والسياسة والتدبير والصبر والفطنة والذكاء ، حتى لا يدانيه بشر سواه فيها ، لأنه لولا ذلك لما صح أن تكون له الرئاسة العامة على جميع الخلق ولا قوة إدارة العالم كله . كما يجب أن يكون طاهر المولد ، أمينا صادقا منزها عن الرذائل قبل بعثته أيضا ، لكي تطمئن إليه القلوب وتركن إليه النفوس ، بل لكي يستحق هذا المقام الإلهي العظيم .

عقيدتنا في الأنبياء وكتبهم

نؤمن على الإجمال بأن جميع الأنبياء والمرسلين على حق ، كما نؤمن بعصمتهم وطهارتهم وأما إنكار نبوتهم أو سبهم أو الاستهزاء بهم فهو من الكفر والزندقة ، لان ذلك يستلزم إنكار نبينا الذي أخبر عنهم وصدقهم . أما المعروفة أسماؤهم وشرائعهم كآدم ونوح وإبراهيم وداود وسليمان وموسى وعيسى وسائر من ذكرهم القرآن الكريم بأعيانهم ، فيجب الإيمان بهم على الخصوص ، ومن أنكر واحدا منهم فقد أنكر الجميع ، وأنكر نبوة نبينا بالخصوص . وكذلك يجب الإيمان بكتبهم وما نزل عليهم . وأما التوراة والإنجيل الموجودان الآن بين أيدي الناس ، فقد ثبت انهما محرفان عما أنزلا بسبب ما حدث فيهما من التغيير والتبديل ، والزيادات والإضافات بعد زماني موسى وعيسى عليهما السلام بتلاعب ذوي الأهواء والأطماع ، بل الموجود منهما أكثره أو كله موضوع بعد زمانهما من الاتباع والأشياع .

عقيدتنا في الإسلام

نعتقد أن الدين عند الله الإسلام ، وهو الشريعة الإلهية الحقة التي هي خاتمة الشرائع وأكملها وأوفقها في سعادة البشر ، وأجمعها لمصالحهم في دنياهم وآخرتهم ، وصالحة للبقاء مدى الدهور والعصور لا تتغير ولا تتبدل ، وجامعة لجميع ما يحتاجه البشر من النظم الفردية والاجتماعية والسياسية . ولما كانت خاتمة الشرائع ولا نترقب شريعة أخرى تصلح هذا البشر المنغمس بالظلم والفساد ، فلابد أن يأتي يوم يقوى فيه الدين الإسلامي فيشمل المعمورة بعدله وقوانينه . ولو طبقت الشريعة الإسلامية بقوانينها في الأرض تطبيقا كاملا صحيحا ، لعم السلام بين البشر ، وتمت السعادة لهم ، وبلغوا أقصى ما يحلم به الإنسان من الرفاه والعزة والسعة والدعة والخلق الفاضل ، ولا نقشع الظلم من الدنيا وسادت المحبة والإخاء بين الناس أجمعين ولا نمحى الفقر والفاقة من صفحة الوجود . وإذا كنا نشاهد اليوم الحالة المخجلة والمزرية عند الذين يسمون أنفسهم بالمسلمين ، فلان الدين الإسلامي في الحقيقة لم يطبق بنصه وروحه ، ابتداء من القرن الأول من عهودهم ، واستمرت الحال بنا ـ نحن الذين سمينا أنفسنا بالمسلمين ـ من سيئ إلى أسوأ إلى يومنا هذا ، فلم يكن التمسك بالدين الإسلامي هو الذي جر على المسلمين هذا التأخر المشين ، بل بالعكس إن تمردهم على تعاليمه واستهانتهم بقوانينه وانتشار الظلم والعدوان فيهم من ملوكهم إلى صعاليكهم ومن خاصتهم إلى عامتهم، هو الذي شل حركة تقدمهم وأضعف قوتهم وحطم معنوياتهم وجلب عليهم الويل والثبور ، فأهلكهم الله تعالى بذنوبهم ( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ، تلك سنة الله في خلقه ( انه لا يفلح المجرمون ) ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) ( وكذلك أخذ ربك اذا أخذ القرى وهى ظالمة ان أخذه أليم شديد ) . وكيف ينتظر من الدين أن ينتشل الأمة من وهدتها وهو عندها حبر على ورق لا يعلم بأقل القليل من تعاليمه . إن الإيمان والأمانة والصدق والإخلاص وحسن المعاملة والإيثار وأن يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه ، وأشباهها من أول أسس دين الإسلام ، والمسلمون قد ودعوها من قديم أيامهم إلى حيث نحن الآن . وكلما تقدم بهم الزمن وجدناهم أشتاتا وأحزابا وفرقا يتكالبون على الدنيا ويتطاحنون على الخيال ويكفر بعضهم بعضا بالآراء غير المفهومة أو الأمور التي لا تعنيهم ، فانشغلوا عن جوهر الدين وعن مصالحهم ومصالح مجتمعهم بأمثال النزاع في خلق القرآن والقول بالوعيد والرجعة وأن الجنة والنار مخلوقتان أو سيخلقان ، ونحو هذه النزاعات التي أخذت منهم بالخناق وكفر بها بعضهم بعضا ، وهى إن دلت على شيء فإنما تدل على انحرافهم عن سنن الجادة المعبدة لهم ، إلى حيث الهلاك والفناء . وزاد الانحراف فيهم بتطاول الزمان حتى شملهم الجهل والضلال وانشغلوا بالتوافه والقشور ، وبالأتعاب والخرافات والأوهام ، وبالحروب والمجادلات والمباهاة ، فوقعوا بالأخير في هاوية لا قعر لها ، يوم تمكن الغرب المتيقظ العدو اللدود للإسلام من أن يستعمر هذه البقاع المنتسبة إلى الإسلام وهى في غفلتها وغفوتها ، فيرمى بها في هذه الهوة السحيقة ، ولا يعلم إلا الله تعالى مداها ومنتهاها ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) . ولا سبيل للمسلمين اليوم وبعد اليوم إلا أن يرجعوا إلى أنفسهم فيحاسبوها على تفريطهم ، وينهضوا إلى تهذيب أنفسهم والأجيال فيحاسبوها على تفريطهم ، وينهضوا إلى تهذيب أنفسهم والأجيال الآتية بتعاليم دينهم القويمة ، ليمحوا الظلم والجور من بينهم . وبذلك يتمكنون من أن ينجوا بأنفسهم من هذه الطامة العظمى ، ولابد بعد ذلك أن يملئوا الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا ، كما وعدهم الله تعالى ورسوله وكما هو المترقب من دينهم الذي هو خاتمة الأديان ولا رجاء في صلاح الدنيا وإصلاحها بدونه . ولابد من إمام ينفى عن الإسلام ما علق فيه من أوهام وألصق فيه من بدع وضلالات ، وينقذ البشر وينجيهم مما بلغوا إليه من فساد شامل وظلم دائم وعدوان مستمر واستهانة بالقيم الأخلاقية والأرواح البشرية . عجل الله فرجه وسهل مخرجه .

عقيدتنا في مشرع الإسلام

نعتقد أن صاحب الرسالة الإسلامية هو محمد بن عبدالله وهو خاتم النبيين وسيد المرسلين وأفضلهم على الإطلاق ، كما أنه سيد البشر جميعا لا يوازيه فاضل في فضل ولا يدانيه أحد في مكرمة ، ولا يقاربه عاقل في عقل ، ولا يشبهه شخص في خلق ، وانه لعلى خلق عظيم . ذلك من أول نشأة البشر إلى يوم القيامة .

عقيدتنا في القرآن الكريم

نعتقد أن ( القرآن ) هو الوحي الإلهي المنزل من الله تعالى على لسان نبيه الأكرم فيه تبيان كل شيء ، وهو معجزته الخالدة التي أعجزت البشر عن مجاراتها في البلاغة والفصاحة وفيما احتوى من حقائق ومعارف عالية ، لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف ، وهذا الذي بين أيدينا تتلوه هو نفس القرآن المنزل على النبي ، ومن ادعى فيه غير ذلك فهو مخترق أو مغالط أو مشتبه ، وكلهم على غير هدى ، فانه كلام الله الذي ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) . ومن دلائل إعجازه انه كلما تقدم الزمن وتقدمت العلوم والفنون ، فهو باق على طراوته وحلاوته وعلى سمو مقاصده وأفكاره ، ولا يظهر فيه خطأ في نظرية علمية ثابتة ، ولا يتحمل نقض حقيقة فلسفية يقينية ، على العكس من كتب العلماء وأعاظم الفلاسفة مهما بلغوا في منزلتهم العلمية ومراتبهم الفكرية ، فانه يبدو بعض منها على الأقل تافها أو نابيا أو مغلوطا ، كلما تقدمت الأبحاث العلمية وتقدمت العلوم بالنظريات المستحدثة ، حتى من مثل أعاظم فلاسفة اليونان كسقراط وأفلاطون وأرسطو الذين اعترف لهم جميع من جاء بعدهم بالأبوة العلمية والتفوق الفكري . ونعتقد أيضا بوجوب احترام القرآن الكريم وتعظيمه بالقول والعمل ، فلا يجوز تنجيس كلماته حتى الكلمة الواحدة المعتبرة جزأ منه على وجه يقصد أنها جزء منه ، كما لا يجوز لمن كان على غير طهارة أن يمس كلماته أو حروفه ( لا يمسه إلا المطهرون ) سواء كان محدثا بالحدث الأكبر كالجنابة والحيض والنفاس وشبهها ، أو محدثا بالحدث الأصغر حتى النوم ، إلا إذا اغتسل أو توضأ على التفاصيل التي تذكر في الكتب الفقهية . كما أنه لا يجوز إحراقه ، ولا يجوز توهينه بأي ضرب من ضروب التوهين الذي يعد في عرف الناس توهينا ، مثل رميه أو تقذيره أو سحقه بالرجل أو وضعه في مكان مستحقر ، فلو تعمد شخص توهينه وتحقيره بفعل واحد من هذه الأمور وشبهها فهو معدود من المنكرين للإسلام وقدسيته المحكوم عليهم بالمروق عن الذين والكفر برب العالمين .

طريقه إثبات الإسلام والشرائع السابقة

لو خاصمنا أحد في صحة الدين الإسلامي ، نستطيع أن نخصمه بإثبات المعجزة الخالدة له ، وهى القرآن الكريم على ما تقدم من وجه إعجازه . وكذلك هو طريقنا لإقناع نفوسنا عند ابتداء الشك والتساؤل اللذين لابد أن يمرا على الإنسان الحر في تفكيره عند تكوين عقيدته أو تثبيتها . أما الشرائع السابقة كاليهودية والنصرانية ، فنحن قبل التصديق بالقرآن الكريم أو عند تجريد أنفسنا عن العقيدة الإسلامية ، لا حجة لنا لإقناع نفوسنا بصحتها ، ولا لإقناع المشكك المتسائل ، إذ لا معجزة باقية لها كالكتاب العزيز ، وما ينقله اتباعها من الخوارق والمعاجز للأنبياء السابقين فهم متهمون في نقلهم لها أو حكمهم عليها . وليس في الكتب الموجودة بين أيدينا المنسوبة إلى الأنبياء كالتوراة والإنجيل ما يصلح أن يكون معجزة خالدة تصح أن تكون حجة قاطعة ودليلا مقنعا في نفسها قبل تصديق الإسلام لها . وإنما صح لنا ـ نحن المسلمين ـ أن نق ونصدق بنبوة أهل الشرائع السابقة ، فلانا بعد تصديقنا بالدين الإسلامي كان علينا أن نصدق بكل ما جاء به وصدقه ، ومن جملة ما جاء به وصدقة نبوة جملة من الأنبياء السابقين على نحو ما مر ذكره . وعلى هذا فالمسلم في غنى عن البحث والفحص عن صحة الشريعة النصرانية وما قبلها من الشرائع السابقة بعد اعتناقه الإسلام ، لان التصديق به تصديق بها ، والإيمان به إيمان بالرسل السابقين والأنبياء المتقدمين ، فلا يجب على المسلم أن يبحث عنها ويفحص عن صدق معجزات أنبيائها ، لان المفروض أنه مسلم قد آمن بها بإيمانه بالإسلام ، وكفى . نعم لو بحث الشخص عن صحة الدين الإسلامي فلم تثبت له صحته ، وجب عليه عقلا ـ بمقتضى وجوب المعرفة والنظر ـ أن يبحث عن صحة دين النصرانية ، لأنه هو آخر الأديان السابقة على الإسلام فان فحص ولم يحصل له اليقين به أيضا وجب عليه أن ينتقل فيفحص عن آخر الأديان السابقة عليه ، وهو دين اليهودية حسب الفرض . . وهكذا ينتقل في الفحص حتى يتم له اليقين بصحة دين من الأديان أو يرفضها جميعا . وعلى العكس فيمن نشأ على اليهودية أو النصرانية ، فان اليهودي لا يعنيه اعتقاده بدينه عن البحث عن صحة النصرانية والدين الإسلامي بل يجب على النظر والمعرفة بمقتضى حكم العقل . وكذلك النصراني ليس له أن يكتفي بإيمانه بالمسيح عليه السلام ، بل يجب أن يبحث ويفحص عن الإسلام وصحته ، ولا يعذر في القناعة بدينه من دون بحث وفحص ، لان اليهودية وكذا النصرانية لا تنفى وجود شريعة لاحقة لها ناسخة لأحكامها . ولم يقل موسى ولا المسيح عليهما السلام أنه لا نبي بعدي . فكيف يجوز لهؤلاء النصارى واليهود أن يطمئنوا إلى عقيدتهم ويركنوا إلى دينهم قبل أن يفحصوا عن صحة الشريعة اللاحقة لشريعتهم كالشريعة النصرانية بالنسبة إلى اليهود ، والشريعة الإسلامية بالنسبة إلى اليهود والنصارى . بل يجب بحسب فطرة العقول أن يفحصوا عن صحة هذه الدعوى اللاحقة ، فان ثبتت لهم صحتها انتقلوا في دينهم إليها ، وإلا صلح لهم في شريعة العقل حينئذ البقاء على دينهم القديم والركون إليه . أما المسلم ـ كما قلنا ـ فانه إذا اعتقد بالإسلام لا يجب عليه الفحص لا عن الأديان السابقة على دينه ولا عن اللاحقة التي تدعى ، أما السابقة فلان المفروض انه مصدق بها فلماذا يطلب الدليل عليها ؟ وإنما فقط قد حكم له بأنها منسوخة بشريعته الإسلامية فلا يجب عليه العمل بأحكامها ولا بكتبها . وأما اللاحقة فلأن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله قال : ( لا نبي بعدي ) وهو الصادق الأمين كما هو المفروض ، ( لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) فلماذا يطلب الدليل على صحة دعوى النبوة المتأخرة إن ادعاها مدع ؟ نعم على المسلم ـ بعد تباعد الزمان عن صاحب الرسالة واختلاف المذاهب والآراء وتشعب الفرق والنحل ـ أن يسلك الطريق الذي يثق فيه أنه يوصله إلى معرفة الأحكام المنزلة على محمد صاحب الرسالة ، لان المسلم مكلف بالعمل بجميع الأحكام المنزلة في الشريعة كما أنزلت ولكن كيف يعرف أنها الأحكام المنزلة كما أنزلت والمسلمون مختلفون والطوائف متفرقة فلا الصلاة واحدة ، ولا العبادات متفقة ، ولا الأعمال في جميع المعاملات على وتيرة واحدة ! . . فماذا يصنع ؟ بأية طريقة من الصلاة ـ إذن ـ يصلى ؟ وبأية شاكلة من الآراء يعمل في عباداته ومعاملاته كالنكاح والطلاق والميراث والبيع والشراء وإقامة الحدود والديات وما إلى ذلك ؟ ولا يجوز له أن يقلد الآباء . ويستكين إلى ما عليه أهله وأصحابه بل لابد أن يتيقن بينه وبين نفسه وبينه وبين الله تعالى ، فانه لا مجاملة هنا ولا مداهنة ولا تحيز ولا تعصب ، نعم لابد أن يتيقن بأنه قد أخذ بأمثل الطرق التي يعتقد فيها بفراغ ذمته بينه وبين الله من التكاليف المفروضة عليه منه تعالى ، ويعتقد انه لا عقاب عليه ولا عتاب منه تعالى باتباعها وأخذ الأحكام منها . ولا يجوز أن تأخذه في الله لومة لائم ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ) . ( إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ) وأول ما يقع التساؤل فيما بينه وبين نفسه انه هل يأخذ بطريقة آل البيت أو يأخذ بطريقه غيرهم . وإذا أخذ بطريقة آل البيت فهل الطريقة الصحيحة طريقة الإمامية الإثنى عشرية أو طريقة من سواهم من الفرق الأخرى . ثم إذا أخذ بطريقة أهل السنة فمن يقلد من المذاهب الأربعة أو من غيرهم من المذاهب المندرسة ؟ هكذا يقع التساؤل لمن أعطي الحرية في التفكير والاختيار ، حتى يلتجئ من الحق إلى ركن وثيق . ولأجل هذا وجب علينا ـ بعد هذا ـ أن نبحث عن الإمامة ، وان نبحث عما يتبعها في عقيدة الإمامية الإثنى عشرية .

الفصل الثالث - الإمامة


CLICK "BACK BUTTON" TO RETURN BACK TO THE INDEX PAGE

aljameyia@yahoo.com